الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
والمراد حصول الزيادة في أجسامهم زيادة خارقة للعادة وإلا لم تذكر في معرض الامتنان. قال الكلبي: كان أطولهم مائة ذراع وأقصرهم ستين ذراعًا. وقال آخرون: تلك الزيادة هي مقدار ما تبلغه يد الإنسان إذا رفعها كانوا يفضلون على أهل زمانهم بهذا القدر. ومنهم من حمل اللفظ على الزيادة في القوة، ومنهم من قال: الخلق الخليقة وبسطتهم فيهم كونهم من قبيلة واحدة متشاركين في القوة والشدّة والجلادة متناصرين متوادّين {فاذكروا آلاء الله} في استخلافكم وبسطة أجرامكم وفيما سواهما من عطاياه وآلاء الله نعمه واحدها إلى ونحوه أني وآناء كعنب وأعناب. قال الجوهري: واحدها إني بالفتح وقد يكسر ويكتب بالياء. استدل الطاعنون في وجوب الأعمال الظاهرية بالآية قالوا: إنه تعالى رتب حصول الفلاح على مجرد التذكر. وأجيب بأن الآيات بالدالة على وجوب العمل مخصصة أو مقيدة والتقدير: فاذكروا آلاء الله واعملوا عملًا يليق بذلك الإنعام لعلكم تفلحون. ذكرهم نبيهم نعم الله عليهم ليرجعوا إلى عقولهم فيعلموا أن العبادة نهاية التعظيم ولا تلق إلا بمن صدر عنه نهاية الإنعام وليس للأصنام على الخلق شيء من النعم لأنها جماد والجماد لا قدرة له أصلا فلم يكن للقوم جواب عن هذه الحجة إلا التمسك بطريقة التقليد وذلك قولهم: {أجئتنا لنعبد الله وحده} الهمزة لإنكار اختصاص الله وحده بالعبادة. وفي المجيء أوجه منها: أن يكون لهود معتزل يتحنث فيه أي يتعبد كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بحراء قبل المبعث، فلما أوحي إليه جاء قومه يدعوهم. ومنها الاستهزاء اعتقادًا منهم أن الله لا يرسل إلا ملكًا فكأنهم قالوا: أجئتنا من السماء كما يجيء الملك؟ ومنها أن يراد به القصد كما يقال: ذهب يشتمني، ولا يراد حقيقة الذهاب كأنهم قالوا: أتعرضت لنا بتكليف عبادة الله وحده أي منفردًا عن الأصنام وهو من المعارف التي وقعت حالًا بتأويل. ولا يمكن أن يكون وحده هاهنا اعترافًا كما يقول الموحد لا إله إلا الله وقال الله وحده لأن الفرض أنهم مشركون. ثم إن قول هود فيما قبل {أفلا تتقون} كان مشعرًا بالتهديد والوعيد فلهذا استعجلوا العذاب زعمًا منهم أنه كاذب وذلك قولهم: {فأتنا بما تعدنا} فأجابهم هود بقوله: {قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب} ولابد أن يحملا على معنييين متغايرين لمكان العطف. أما الغضب في حقه تعالى فإرادة إيقاع السوء كما سبق مرارًا، وأما الرجس فقيل: العذاب.اعترض عليه بلزوم التكرار. وقيل: العقائد المذمومة والصفات القبيحة. وذلك أن الرجس ضد التطهير كما قال سبحانه في صفة أهل البيت {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرًا} [الأحزاب: 33] وقال القفال: الرجس هو الازدياد في الكفر بالرين على القلوب كما قال: {فزادتهم رجسًا إلى رجسهم} [التوبة: 125] وهذا التفسير أخص. أما قوله: {قد وقع} ولم يقع العذاب بعد ففيه وجوه: قال بعض من يقول بأن إرادة الله تعالى حادثة: معناه أنه تعالى أحدث إرادة في ذلك الوقت. وقيل: أراد هود أنه أخبر بنزول العذاب. وقيل: جعل المتوقع الذي لا شك فيه بمنزلة الواقع كقولك لمن طلب منك حاجة قد كان ذلك. تريد أنها ستكون ألبتة. وعن حسان أن ابنه عبد الرحمن لسعه زنبور وهو طفل فجاء أباه يبكي فقال له: يا بني ما لك؟ فقال: لسعني طوير كأنه ملتف في بردي حبرة فضمه إلى صدره وقال: يا بني قد قلت الشعر.ثم أنكر عليهم قبيح فعالهم فقال: {أتجادلونني في أسماء} تناظرونني في شأن آلهة أشياء ما هي إلا أسماء {سميتموها} أحدثتموها {أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان} أي لا حجة على حقيقتها فتنزل. والحاصل أنها أسماء بلا مسميات لأنكم تسمونها آلهة ومعنى الإلهية فيها معدوم محال. سموا واحدًا بالعزي مشتقًا من العز وما أعطاه الله تعالى عزًا أصلًا. وسموا آخر منها باللات من الإلهية وماله من الإلهية أثر. وإنما قال في هذه السورة نزل وفي غيرها مما سيجيء {أنزل} لأن نزل للتكثير فيكون للمبالغة ويجري ما بعده مجرى التفصيل للجملة، أو أنواع للجنس والله أعلم. ثم إنه ذكرهم وعيدًا محدودًا فقال: {فانتظروا} سوء عاقبة هذه الأصنام {إني معكم من المنتظرين} عاقبة السوء أو عاقبة الحسنى وذلك قوله: {فأنجيناه والذين معه برحمة} بسبب رحمة كانوا يستحقونها {منا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا} أي استأصلناهم ودمرناهم عن آخرهم وقد مر مثله في الأنعام. وفائدة نفي الإيمان عنهم في قوله: {وما كانوا مؤمنين} مع إثبات التكذيب بآيات ربهم أن يكون تعريضًا بمن آمن منهم، كمرثد بن سعد وغيره كأنه قيل: ولقد قطعنا دابر الذين كذبوا ولم يكونوا مثل من آمن منهم، أو معنى {وما كانوا مؤمنين} في علم الله تعالى أي لم يكونوا من المكذبين الذي لو بقوا لآمنوا. قال في الكشاف: وإن عادًا قد تبسطوا في البلاد ما بين عمان وحضرموت وكانت لهم أصنام يعبدونها. صداء وصمود والهباء فبعث الله هودًا نبيًا وكان من أوسطهم وأشرفهم وأفضلهم حسبًا فكذبوه وازدادوا عتوًا وتجبرًا، فأمسك الله عنهم القطر ثلاث سنين حتى جهدوا. وإن الناس كانوا إذا نزل بهم بلاء طلبوا إلى الله الفرج من ذلك عند بيته الحرام مسلمهم ومشركهم وأهل مكة إذ ذاك العماليق أولاد عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح وسيدهم معاوية بن بكر، فجهزت عاد إلى مكة من أماثلهم سبعين رجلًا منهم قيل ابن عنز ومرثد بن سعد الذي كان يكتم إسلامه فلما نزلوا على معاوية بن بكر وهو بظاهر مكة خارجًا من الحرم أنزلهم وأكرمهم وكانوا أخواله وأصهاره فأقاموا عنده شهرًا يشربون الخمر وتغنيهم الجرادتان قينتان كانتا لمعاوية إحداهما وردة والأخرى جرادة ولما رأى طول مقامهم وذهولهم باللهو عما قدموا لأجله أهمه ذلك وقال: قد هلك أخوالي وأصهاري وهؤلاء على ما هم عليه وما يستحي أن يكلمهم خيفة أن يظنوا أنه ثقل مقامهم عليه فذكر ذلك للقينتين فقالتا: قل قولًا نغينهم به لا يدرون من قاله فقال معاوية:
الهينمة إخفاء الكلام في الدعاء وغيره، ومعنى يسقينا يجعله ساقيًا لنا. وقوله ما يبينون الكلام أي لا يكادون يفقهون قولًا من ضعفهم وسوء حالهم. فلما غنتا به قالوا: إن قومكم يتغوّثون من البلاء الذي نزل بهم وقد أبطأتم عليهم فادخلوا الحرم واستسقوا لقومكم. فقال لهم مرثد بن سعد: والله لا يسقون بدعائكم ولكم إن أطعتم نبيكم وتبتم إلى ربكم سقيتم وأظهر إسلامه. فقالوا لمعاوية: أحبس عنا مرثدًا لا يقدمن معنا مكة فإنه قد اتبع دين هود وترك ديننا، ثم دخلوا مكة فقال قيل: اللهم اسق عادًا ما كنت تسقيهم فأنشأ الله سحابات ثلاثًا بيضاء وحمراء وسوداء ثم ناداه مناد من السماء ياقيل اختر لنفسك ولقومك. فقال: اخترت السوداء فإنها أكثرهن ماء فخرجت على عاد من واد لهم يقال له المغيث فاستبشروا بها وقالوا: هذا عارض ممطرنا. فجاءتهم منها ريح عقيم فأهلكتهم ونجا هود والمؤمنون معه فأتوا مكة فتعبدوا الله فيها حتى ماتوا. اهـ. .قال البيضاوي: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ}.عطف على نوحًا إلى قومه. {هُودًا} عطف بيان لأخاهم والمراد به الواحد منهم، كقولهم يا أخا العرب للواحد منهم، فإنه هود بن عبد الله بن رباح بن الخلود بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح. وقيل: هود بن عبد الله بن رباح بن الخلود بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح، وقيل هود بن شالح بن أرفخشد بن سام بن نوح، ابن عم أبي عاد، وإنما جعل منهم لأنهم أفهم لقوله وأعرف بحاله وأرغب في اقتفائه. {قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا الله مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} استأنف به ولم يعطف كأنه جواب سائل قال: فما قال لهم حين أرسل؟ وكذلك جوابهم. {أَفَلاَ تَتَّقُونَ} عذاب الله، وكأن قومه كانوا أقرب من قوم نوح عليه الصلاة والسلام ولذلك قال أفلا تتقون {قَال المَلأَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ} إذ كان من أشرافهم من آمن به كمرثد بن سعد.{إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ} متمكنًا في خفة عقل راسخًا فيها حيث فارقت دين قومك. {وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الكَاذِبِينَ}.{قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بي سَفَاهَة وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ العَالَمِينَ}.{أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ}.{أَوَ عَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِركُمْ} سبق تفسيره. وفي إجابة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الكفرة عن كلماتهم الحمقاء بما أجابوا والإِعراض عن مقابلتهم كمال النصح والشفقة وهضم النفس وحسن المجادلة، وهكذا ينبغي لكل ناصح، وفي قوله: {وأنا لكم ناصح أمين} تنبيه على أنهم عرفوه بالأمرين. وقرأ أبو عمرو {أبلغكم} في الموضعين في هذه السورة وفي الأحقاف مخففًا. {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} أي في مساكنهم، أو في الأرض بأن جعلكم ملوكًا فإن شداد بن عاد ممن ملك معمورة الأرض من رمل عالج إلى شجر عمان. خوفهم من عقاب الله ثم ذكرهم بإنعامه. {وَزَادَكُمْ فِي الخَلْقِ بَسْطَةً} قامة وقوة. {فَاذْكُروا آلاءَ اللَّهِ} تعميم بعد تخصيص. {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} لكي يفضي بكم ذكر النعم إلى شكرها المؤدي إلى الفلاح.{قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ الله وَحْدَهُ وَنَذَر مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} استبعدوا اختصاص الله بالعبادة والأعراض عما أشرك به آباؤهم انهماكًا في التقليد وحبًا لما ألفوه، ومعنى المجيء في {أجئتنا} إما المجيء من مكان اعتزل به عن قومه أو من السماء على التهكم، أو القصد على المجاز كقولهم ذهب يسبني. {فَائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} من العذاب المدلول عليه بقوله: {أفلا تتقون}. {إنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقينَ} فيه.{قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ} قد وجب وحق عليكم، أو نزل عليكم على أن المتوقع كالواقع. {مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ} عذاب من الارتجاس وهو الاضطراب. {وَغَضَبٌ} إرادة انتقام. {أَتُجَادِلُونَني فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ الله بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} أي في أشياء سميتموها آلهة وليس فيها معنى الإِلهية، لأن المستحق للعبادة بالذات هو الموجد للكل، وأنها لو استحقت كان استحقاقها بجعله تعالى إما بإنزال آية أو بنصب حجة، بين أن منتهى حجتهم وسندهم أن الأصنام تسمى آلهة من غير دليل يدل على تحقق المسمى، وإسناد الاطلاق إلى من لا يؤبه بقوله إظهارًا لغاية جهالتهم وفرط غباوتهم، واستدل به على أن الاسم هو المسمى وأن اللغات توقيفية إذ لو لم يكن كذلك لم يتوجه الذم والإِبطال بأنها أسماء مخترعة لم ينزل الله بها سلطانًا وضعفهما ظاهر. {فَانْتَظِرُوا} لما وضح الحق وأنتم مصرون على العناد نزول العذاب بكم. {إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ المُنْتَظِرِينَ}.{فَأَنّجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ} في الدين. {بِرَحْمَةٍ مِنَّا} عليهم. {وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بَآيَاتِنَا} أي استأصلناهم. {وَمَا كَانُوا مُؤْمِنينَ} تعريض بمن آمن منهم، وتنبيه على أن الفارق بين من نجا وبين من هلك هو الإِيمان.روي أنهم كانوا يعبدون الأصنام فبعث الله إليهم هودًا فكذبوه، وازدادوا عتوًا فأمسك الله القطر عنهم ثلاث سنين حتى جهدهم، وكان الناس حينئذ مسلمهم ومشركهم إذا نزل بهم بلاء توجهوا إلى البيت الحرام وطلبوا من الله الفرج، فجهزوا إليه قيل بن عثر ومرثد بن سعد في سبعين من أعيانهم، وكان إذ ذاك بمكة العمالقة أولاد عمليق بن لاوذ بن سام وسيدهم معاوية بن بكر، فلما قدموا عليه وهو بظاهر مكة أنزلهم وأكرمهم، وكانوا أخواله وأصهاره، فلبثوا عنده شهرًا يشربون الخمر وتغنيهم الجرادتان قينتان له، فلما رأى ذهولهم باللهو عما بعثوا له أهمه ذلك واستحيا أن يكلمهم فيه مخافة أن يظنوا به ثقل مقامهم فعلم القينتين:حتى غنتا به، فأزعجهم ذلك فقال مرثد: والله لا تسقون بدعائكم ولكن إن أطعتم نبيكم وتبتم إلى الله سبحانه وتعالى سقيتم، فقالوا لمعاوية: احبسه عنا لا يقدمن معنا مكة فإنه قد اتبع دين هود وترك ديننا، ثم دخلوا مكة فقال قيل: اللهم اسق عادًا ما كنت تسقيهم، فأنشأ الله تعالى سحابات ثلاثًا بيضاء وحمراء وسوداء، ثم ناداه مناد من السماء يا قيل: اختر لنفسك ولقومك. فقال اخترت السوداء فإنها أكثرهن ماء، فخرجت على عاد من وادي المغيث فاستبشروا بها وقالوا: {هذا عارض ممطرنا} فجاءتهم منها ريح عقيم فأهلكتهم ونجا هود والمؤمنون معه، فأتوا مكة وعبدوا الله سبحانه وتعالى فيها حتى ماتوا. اهـ.
|